أكتوبر 13، 2009

الإسلام دين الدولة: تناقضات وانتهاكات


قد لا يختلف معنا أحد في القول بأنّ الافتقار إلى شروط المواطنة وامتيازاتها الوطنية والدستورية والقانونية هي أزمة عامّة يعاني منها المجتمع العربي برمّته لا فرق في ذلك بين أكثرية أو أقلية. وربما كان الأمر الوحيد الذي تتساوى فيه أكثريات المجتمع مع أقلياته، هو أنها جميعاً عرضة لانتهاك الحقوق وتهميش الوجود من قبل الطبقة الحاكمة. ونحن نرى أنه عندما يكون البلاء عامّاً على هذا النحو يغدو تخصيص الحديث عن معاناة فئات معيّنة دون الفئات الأخرى من قبيل التخفيف من وقع البلاء وتحسين صورته. فالمواطنة في التعريف هي: ((انتماء الفرد إلى وطن معيّن بالمولد أو بالجنسية ضمن إطار مجتمع سياسي مؤسّساتي؛ بما يمكّنه من حقوق ويكلفه بواجبات بموجب ذلك الانتماء، في مساواة مع الآخرين دون ميز أو حيف، وبما يحقق علاقة سليمة مع الدولة في إطار من الشفافية والديمقراطية)). ونستنتج من هذا التعريف أن مفاهيم الديمقراطية والمؤسسات والحقوق هي مداخل أساسية لتحقيق المواطنة، وبالتالي فإن المواطنة لا يمكن أن تتوافر في مجتمع غير مؤسساتي أو غير ديمقراطي، وبما أن الأنظمة القائمة في الدول العربية أكثر ما يصدق عليها التوصيف بأنها أنظمة شمولية لا تراعي مقتضيات الديمقراطية في ممارسة السلطة وتداولها فهذا يعني حتماً انتفاء أي إمكانية للحديث عن المواطنة الحقة وتوافرها لدى الجميع دون استثناء. لنفترض جدلاً أن العرب المسلمين يشكلّون أكثرية المجتمع العربي، فهل أفراد هذه الأكثرية المفترضة يتمتعون بشروط المواطنة وامتيازاتها أكثر مما يتمتع به أعضاء ما يسمى بالأقليات؟ المبدأ الأساس هو أن المواطنة لا تتحقق إلا في ظل مبدأ سيادة القانون، وبما أن جميع الدول العربية لا يطبق فيها مبدأ سيادة القانون بشكل سليم، فإنّ المواطنة كرابطة قانونية ووطنية تتراجع إلى الوراء كي تتقدم إلى مكانها روابط أخرى كالولاء السياسي النفعي والمصلحي للطبقة الحاكمة. وبالتالي فإنّ مركز المسلمين (بكونهم أكثرية عددية) لا يمكن أن نطلق عليه وصف المواطنة، لأن هذا المركز غير محكوم بمبدأ سيادة القانون وإنما بمبدأ الولاء النفعي. فالمسلمون كما ترى يفتقرون إلى المواطنة شأنهم في ذلك شأن الأقليات العددية الموجودة في المجتمع، كالمسيحيين أو الأكراد أو البربر وغيرهم. وهذا يقودنا إلى تأكيد القول بأنّ أزمة المواطنة ليست حكراً على الأقليات، وإنما تمتد لتشمل جميع فئات المجتمع وهي تجسيد حقيقي لأزمة الديمقراطية في الدول العربية.
الإسلام دين الدولة: تناقضات وانتهاكات
برغم ما ذكرناه في الملاحظة الأولى من أن أزمة المواطنة تتسم بالطابع العام، وأنه ليس في المجتمع "فرقة ناجية" من ويلات غيابها، لا بين المسلمين ولا بين المسيحيين ولا في أي فئة أخرى. فإنّ الدقة تتطلب منا أن نذكر تفصيلاً هاماً وهو أن المعاناة من فقدان المواطنة تتدرج صعوداً هبوطاً بين فئات المجتمع، بحيث تكون حصة فئة من هذه المعاناة أكبر من حصة فئة أخرى. وفي هذا التفصيل فقط يغدو تخصيص الحديث عن الأقليات والمواطنة صحيحاً ولا يتنافى مع عمومية الأزمة. فالقول مثلاً بأنّ المسلمين لا يتمتعون بالمواطنة هو قول صحيح، يدعمه ما ذكرناه سابقاً من غياب الديمقراطية والوجود المؤسساتي ومبدأ سيادة القانون. ولكنّ القول بأنّ المسلمين برغم افتقارهم إلى المواطنة إلا أنهم يحظون، بحكم انتمائهم إلى الإسلام، بمركز دستوري وقانوني أسمى من مركز باقي فئات المجتمع، هو قول صحيح كذلك. ويتجلّى هذا السموّ الواضح في إصرار كافة الدول العربية تقريباً على إلباس الشخص المعنوي للدولة عباءة الإسلام وتتويجه بعمامته، وذلك من خلال النص في دساتيرها على أنّ "دين الدولة هو الإسلام". ويكفي ألا يكون في وضع هذا النص ضمن أحكام الدستور سوى محاولة واضعيه استرضاء الأغلبية المسلمة وكسب ودها لإضفاء الشرعية على الحكم، حتى نستنتج أن باقي الأديان أو أتباعها لا يتمتعون بالأهمية الكافية لاسترضائهم وكسب ودّهم، وهذا تمييز فاضح وانتهاك لمبدأ احترام جميع الأديان الذي تنص عليه أيضاً وفي تناقض صارخ دساتير الدول العربية نفسها. فضلاعن ذلك فإن فكرة "دين الدولة" التي هي في النهاية مجرد شخص معنوي تتنافي مع المنطق القانوني الذي أبدع نظرية الأشخاص المعنويين. فالشخص المعنوي ينبغي ألا يتمتع إلا بالخصائص التي يحتاج إليها لتحقيق غايته ولا يجوز أن يعطى أكثر من ذلك، وتوضيحاً لهذه الفكرة نتساءل: هل يجوز أن يوضع في عقد تأسيس شركة ما أن دين الشركة هو الإسلام؟ إذا كان الجواب بالنفي، وهو كذلك، ننتقل إلى التساؤل الآخر والأهمّ: لماذا يجوز للدولة بكونها شخصاً معنوياً أن تحدّد دينها ولا يجوز ذلك لبقية الأشخاص المعنويين الذين يعترف المشرع بوجودهم القانوني؟ نحن نعتقد أن تصوير الدولة كشخص طبيعي وليس معنويا، ووضع خانة الدين بجانب اسمها في سجلّ أحوالها الشخصية، ينطوي على مخالفة للمبادئ القانونية التي تحكم عالم الأشخاص المعنويين، ويعطي للدولة خصيصة ليست من مستلزمات وجودها ولا من الشروط الواجبة واللازمة لتحقيق غايتها التي أنشئت من أجلها. وكان الأفضل، إذا كان ولا بد من الحديث عن الدين، أن ينص الدستور على اعتبار جميع الأديان التي تنتمي إليها فئات المواطنين أدياناً رسمية، مع أنه يبقى الأفضل أن يكتفي الدستور على النص على حرية الاعتقاد دون الإيغال في التمييز بين دين وآخر كما يفعل في نصه الحالي. ومن جهة أخرى يتبدى سمو الإسلام دستورياً وقانونياً في مكان آخر سوف نشير إليه الآن. تنص جميع القوانين العربية على موضوع تغيير الدين لكنها لا تجيز تغيير الدين إلا باتجاه الإسلام، وهذا تمييز آخر ضد الأديان الأخرى وأتباعها وينطوي على مخالفة دستورية لمبدأ حرية الاعتقاد واحترام جميع الأديان. فالقوانين العربية لا تجيز للمسلم أن يترك دين الإسلام وينتقل إلى دين آخر، لكنها تجيز فقط لأتباع الأديان الأخرى أن يتركوا أديانهم وينتقلوا إلى الإسلام، مع الإشارة إلى أن عدم الجواز يشمل انتقال أتباع دين غير الإسلام إلى دين آخر غير الإسلام أيضاً، فلا يجوز لليهودي مثلا أن ينتقل إلى الدين المسيحي، وليس في نصوص القوانين العربية ما يجيز تسجيل هذا الانتقال والاعتراف به رسمياً. ما سبق ذكره يصل بنا إلى تسجيل النتيجتين التاليتين: وهي أن الأفراد الذين ينتمون إلى دين غير الاسلام يتعرضون لتمييز واضح من خلال ترتيب الأديان بين درجتين أولى وثانية، في الأولى يجلس الإسلام وباقي الأديان في الثانية. تتعرض حرية الاعتقاد لجميع الأفراد، أياً كان دينهم، لتقييد كبير وخطير يحول بينهم وبين الممارسة الفعلية لهذه الحرية إلا في حدود ضيقة يتمتع بها البعض دون الآخر. فالمسلم محروم تماماً من هذه الحرية، ولا يجوز له ممارستها لأن الانتقال من الإسلام إلى دين آخر يعد ردّة تصل عقوبتها في التشريع الإسلامي إلى القتل في بعض المذاهب. أما غير المسلم فلا يجوز له تغيير دينه إلا باتجاه الإسلام، ولا يجوز له ذلك باتجاه الأديان الأخرى.
الاضطهاد الاجتماعي: الفعل ورد الفعل
فضلا عن التمييز الذي تنطوي عليه نصوص الدساتير العربية بين الإسلام وبقية الأديان، وما يترتب على هذا التمييز من إحساس بالدونية لدى فئة كبيرة من أفراد المجتمع، فإنّ هناك وجهاً آخر لمشكلة الأقليات والمواطنة لا يقل أهمية عن الوجه الدستوري الذي أشرنا إليه أعلاه. ويتمثل هذا الوجه الجديد بالاضطهاد الاجتماعي، أو بعبارة أدق بالاضطهاد الذي يتجلى ببعض الممارسات والعادات الاجتماعية التي ترسخت في وعينا وتعمقت على مر السنين الطويلة الماضية، فالطوائف هي حصون مغلقة في مواجهة بعضها البعض، وكل طائفة لها نظرتها الاستعلائية على بقية الطوائف كون يقينها أنها وحدها تملك الحقيقة أما الطوائف الأخرى فقد حادت عن جادة الصواب. وقد ترتب على ذلك نوع مقيت من الممارسات الاضطهادية التي يمارسها أهل الطوائف في مواجهة بعضهم البعض ودائماً يكون الطرف الأكثر عرضة للاضطهاد هو طرف الأقلية. لكن نجد أنفسنا مضطرّين للإشارة إلى أن الاضطهاد الاجتماعي الذي يمارس ضدّ الأقليات يأخذ طابعاً أكثر تعقيداً من التمييز الدستوري المشار إليه في الفقرة السابقة، لأنّ الدستور واضح وحاسم في نصوصه، أمّا الواقع الاجتماعي فإنّه متشابك، وقد لا يكون من السهولة بمكان تحديد الضحية من الجلاد. فصحيح أنّ الأقليات في المجتمع مكتوب عليها أن تتحمل قدرها وتقبل قضاءها المتمثل في كونها طرفاً ضعيفاً معرضاً للتهميش وأحياناً سوء المعاملة، لكن الصحيح أيضاً أن هذه الأقليات نفسها قد تشكل أكثرية في بقعة محددة من ذات المجتمع، وتمارس ضد أقلية تلك البقعة نفس ما يمارس عليها من انتهاكات واضطهادات. وكأن الأمر يتحوّل إلى فعل وردّ فعل، وينمو في حلقات متسلسلة ومتلاحقة يصبح من الصعب ضبطها والسيطرة عليها. وهذا يدلّ بشكل حاسم على أن مشكلة الأقليات هي مشكلة في الوعي قبل أن تكون مشكلة في النص. والخروج من هذه الأزمة حسب اعتقادنا، لا يكون إلا بالعمل على تحسين الوعي الاجتماعي وتنميته وتغذيته بموارد جديدة من ينابيع العيش الواحد (وليس التعايش ولا العيش المشترك)، وكذلك بتعزيز الديمقراطية والفكر المؤسساتي وشعور الانتماء إلى جهة واحدة، هي الوطن الذي تستمد المواطنة منه اسمها، وليس إلى الطائفة والمذهب، لأن الطائفة تطفو والمذهب يذهب ولا يبقى في الأعماق إلا حروف ثلاثة: و ط ن.