![](https://blogger.googleusercontent.com/img/b/R29vZ2xl/AVvXsEjJK_7HT3b_sjA2gBrb2UJqs9OQ48GanpzottFR18-OVZweUgTgJQjcSlN-AnxFtd-lrft3KVolxWXuCdRPISpsbubLQ_0yt7J8WmVSa7-mkNB4iaSVq0Mx0MbYTPQr0AIvXIYik7nnSZlv/s200/svp-diktator.jpg)
تييري غاليبير
يميل معلقون وإخباريون كثر الى قصر صفة المسوخ السياسية على الأنظمة الكليانية أو الشمولية. والحق أن الأنظمة هذه افتتنت بها النخب الثقافية، أو معظمها، في بدايات القرن العشرين. فمدح بول إيلويار، في 1949، ستالين. فكتب: «يبدد ستالين اليوم الشقاء، والثقة هي دماغه النيَّر»، ولما يكن انقضى عقد من السنين على اختفاء الشاعر الروسي أوسيب مانديلشتام في معسكرات الاعتقال بسيبيريا. فكان مديح الشاعر الفرنسي المسخ السياسي، ستالين، قرينة على انتقال عدوى الافتتان الى النخب. وقبل 4 أعوام، في 1945، اختفى صديق إيلويار، روبير ديسنوس، في معسكر نازي، على النحو نفسه. فالفاشيتان السوداء والحمراء سواءٌ في برمجتهما القضاء على الفرد.
وأجمع بعض كبار الكتّاب والشعراء بأوروبا، من أنصار النازية والشيوعية، ومن مناصري قضايا الحرية، على الانحياز الى الطغيان كرهاً بالفرد، وتعويلاً على غاية تربوية هي صوغ انسان الحداثة الجديد. وحمل التعويل أراغون، الشاعر الفرنسي السوريالي فالشيوعي، في 1935، على نشدان «علم عظيم (يتولى) تربية الإنسان، واستيلاد المجرم امرءاً نافعاً، والفرد الذي شوهه مجتمع الأمس وقوى الظلام إنساناً ينتظره عالم الغد، انساناً بحسب التاريخ ومعياره».
ولا شك في أن التعليم الجماهيري في المجتمعات المعاصرة يفترض إعمال تقنية تربوية. فإذا كانت مقاصد التربية والتعليم الجماهيرية سياسية، وترمي الى تثبيت البنية الفوقية (الإيديولوجية) وتسويقها، أظهرت إرادة استتباع وتسلط. ولاحظ بعض من نجوا من معسكرات الاعتقال والإبادة في الحرب الثانية، أن معظم مدبري المعسكرات وحراسها من «الفرق الخاصة» النازية كانوا اسوياء، وقلة منهم كانوا مسوخاً. فهم نتاج التعليم المدرسي. وهمّ التعليم هذا هو تخريج موظفين ينقادون للأوامر، ويحسبون الانقياد هذا شرطاً لا غنى عنه لبلوغ السعادة والمسرة. فالثقافة الكليانية أو الشمولية تجعل نصب نظرها عبادة النفس. فلا يرى الموظفون الطائعون والمنقادون على انقيادهم الى الأوامر، والصدوع بها، يترتب عليه إكراه الضحايا على إطاعة رغبات الطاغية النموذجي وتلبيتها، ولو أدى الأمر الى رمي من لا يشاطرون الطاغية رأيه أو مقاصده في «مزبلة التاريخ»، على ما كان الزعيم الشيوعي الروسي ليون تروتسكي يقول.
وعلى هذا، عزل «المرء السوي»، النازي أو الشيوعي، رجل (أو إنسان) المعسكرات، وألبسه زي المعتقل، ورقّمه رقماً متسلسلاً، وحط به الى مرتبة جسد متعضٍ يجوز اجراء الاختبارات الطبية عليه، إذا اقتضت الحاجة. وإذا لم يقتل في حجرات الغاز، ولم يعدم، قُضي فيه بلزوم حال الانشداه التي تقربه، من طريق غريزة البقاء، الى الحيوانية، وتعفيه من التفكير عموماً، بما فيه التفكير في الانتحار. فالغاية من وراء المعسكر تنشيط غريزة القطيع، وتبديد الوجدان الذي يعوق تكيف المرء مع بيئته، وجعل المرء انسان «هذا» العالم، عالم معتقل الإبادة. وحين يقوم الجسد مقام القشرة أو القوقعة، يقتصر الفرد على الآلة فيه، ويتحصّن بموت الإحساس، ويرتد عن خصوصية إنسانيته. فإذا انتفت رابطته بغير «هذا» العالم، انصرف الى قيمه الخاصة التي لا يشاطره اياها غيره، وانكفأ اليها. وهذه القيم هي قيم الطاغية: فهو لا يحتمل نفسه، ولا يطيقها، فلا يحتمل الآخرين ولا يطيقهم.
وذاتية معتقل المعتقلات الكليانية أو التوتاليتارية تتقلص الى ذاتية مجردة وأنانية خالصة، تنهض عليها الذهنية المجردة التي حملت أراغون وإيلويار، ونصير النازية دريو لاروشيل، على ما حملتهم عليه وسوغت تنصلهم من التضامن الإنساني. وحين تغلب المسوخة، تنحلّ رابطة التضامن، وينكفئ الفرد على نفسه، ويجبر على قمع انفعالاته، ويقصر على التفكير في نفسه. فتخليه عن قدرته على الاستياء والاستنكار يحول بينه وبين الانتباه الى رفاق تعاسته. وتدين الأنظمة الكليانية الفنانين والشعراء والروائيين بـ «الانحطاط»، على قول القوميين - الاجتماعيين (النازيين)، أو بـ «الشكلانية»، على قول الستالينية. ويسوغ الإدانة هذه إنكار خاصيات الفرد الذاتية، واختصاره في «اجتماع - ية» (اشتراكية) وضعية.
واستنكاف الفنانين والكتّاب عن الشراكة في النظام العام، ومزاولتهم انكفاءً عن «المجتمع» رجعياً، أجازا اعتقالهم «الاجتماعي» أو الجمعي.
فالمِسخ الكلياني الشمولي انما يحفظ نفسه ويحميها بواسطة الاستتباع الفردي. وبعض المنازع الشمولية ترى أن تربية الأفراد الذين ينتسبون الى عرق «منحط» تفترض إقراراً بجواز الارتقاء بهم الى مرتبة الإنسان الجديد، ومثاله الممتنع. ويرتب الارتقاء هذا ثمناً باهظاً، على افتراض جوازه. وهذا مستحيل. ومن وجه آخر، يعلي الفن النازي شأن الجسد الظاهر والمرئي، جسد الرياضيين على وجه الخصوص. فما يهمه ويشغله هو نازع المرء، وجسده، الى الشبه، والدخول تحت مثال مشترك. وحين ينشد الشعراء الطليعيون على زعمهم وزعم أحزابهم، التخفف من الفردية الشخصية، فإنما يسعون في تغليب الشبه أو المثال الواحد والجامع هذا، والمشي في ركاب «التاريخ».
والحق أن تشييء العالم، وتصنيم السياسية، ورفع الفرد الى مرتبة الإنسان أو المواطن، هي بعض جذور العقلانية الغربية. وحين أعرب توكفيل، قرناً قبل معتقلات الإبادة، عن خشيته من إفضاء الفردية الديموقراطية الى الطغيان، كان شاهد الطاغية «المجتمعي» الذي رسم ألفريد جارّي صورته تحت قسمات أوبو واسمه في ختام القرن التاسع عشر، (في 1888 على وجه الدقة). ونبه بعض المثقفين المعاصرين الى الآصرة السببية التي تشد الطغيان الكلياني أو التوتاليتاري الى خسارة همّ ذات النفس، وتشد السيطرة على الغير الى الاسترسال مع الرغبات. وقد يكون الطاغية الكلياني عماد أسرى وأباً عطوفاً، وباشا ذا رغبات جنسية لا حد لها، ولا قيد عليها، معاً، ويبلغ الانتشاء، على معنى الخروج من الإهاب، وهو يرى رعاياه يقضون في عذاب مروع. والدعوة الى تلبية الملذات، والاستمتاع، دعوة الى خلاص الفرد، والانقياد الى استراتيجية سلطة ترسي طغيانها على توحيد الأفراد وجمعهم في كلٍ متجانس.
* أستاذ جامعي وصاحب كتاب «الحيوانية»، 2008، عن «ريفو دي دو موند» الفرنسية/ 12/2008، إعداد و. ش.عن «غرينسين. كوم»