فبراير 16، 2009
ألغام على طريق التحول الديمقراطي في إقليم كردستان
أيوب بارزاني
من عادة قوى "الإستبداد" سواء تمثلت في نظام الحزب الواحد، أوالفرد الدكتاتور، العسكري أو المدنى، أن تخلق الظروف والعوامل السياسية لإجهاض بروز قوى تأخذ السلطة السياسية منها، حتى وإن جرى تداول السلطة عن طريق إنتخابات ديمقراطية حرّة ونزيهة ووفق بنود الدستوروتحت رقابة دولية فعالة.
فالمراقب الحاذق يبحث عن علامات الاستبداد في المجتمع، بالنظر الى خلف الكلمات والعبارات النبيلة التي تتفنن قوى الإستبداد في تكرارها لتخدير المجتمع. فمن علامات الإستبداد سيطرة قلة من الأشخاص على الجيش والأمن والشرطة وعدم احترام إرادة الشعب، وتفاوت كبير في توزيع ثروات البلد والتحكم في توزيع المناصب والوظائف الإدارية والعسكرية والأمنية وفرص العمل والعقود التجارية، وإحتكار وسائل الإعلام والإتصالات وإرغام المواطن على القبول بما يقال له ومنع تطور المؤسسات المدنية. هنا نكون داخل إطار الإستبداد.
والسؤال هو كيف تتمكن سلطة "الإستبداد" خلق هذه الظروف والعوامل التي تساعد على استمراريتها في إحتكار السلطة السياسية والإقتصادية والمالية والدعائية حتى بعد هزيمتها في الإنتخابات العامة ؟ كيف تتمكن، وهي خارج الحكم، من إجهاض العملية الديمقراطية بمنع "قوى المعارضة" التي أتت خارج رحم الإستبداد، من إستلام السلطة، بعد نيلها أكثرية الأصوات في إنتخابات ديمقراطية ؟
شعار "تداول السلطة ديمقراطياً" شعار تتبجح به "قوى الإستبداد في كردستان" وتتباهى به أمام حكومة بغداد وتأكد عليه في أجهزة دعايتها المؤممة المرئية والسمعية والمكتوبة.!
إن الإستبداد الذي نشأ في رحم المجتمع الكردستاني، وكما شهدناه طوال خمس عقود مضت، ضّمَنَ في البداية ديمومته خلال عملية "الوراثة" فيحل الإبن محل الوالد وثم يأتي الحفيد وهكذا... أصبح كل هذا ممكناً بعد ان تمكن الأب من فرض إرادته بالقوة على الحزب والمجئ بالطائعين والموالين كأعضاء في المكتب السياسي يعملون وفق إرادته، فتم تحويل الحزب الى أداه لتحقيق أهوائه ومصالحه الشخصية. هنا ينتهي دور الحزب في كونه أداة لخدمة الأهداف القومية والوطنية للشعب، الى أداة إحتكارية لفرض هيمنة إرادة الفرد أو المستبد على سائر المجتمع. لكن في العقدين الماضيين أخذت تظهر عوامل أخرى أثرت في تقوية نزعة الإستبداد وديمومته عن طريق توفيرالإمكانات المالية الهائلة والتي كانت تأتي مباشرة من "الأعداء" خلال العقد الأخير من القرن العشرين وحتى إنهيار نظام صدام حسين بفعل التدخل العسكري الأمريكي البريطاني عام 2003، فَتَغَذى به الإستبداد الكردي. وبعد سقوط نظام البعث، تولد عامل آخر لصالح تعزيز الإستبداد، الا وهو تعيين الممثلين الكورد، من قبل قيادة الحزبين الحاكمين على أساس علاقات القربى والإنتماء القبلي والولاء الشخصي، في الحكومة الإتحادية العراقية في بغداد وإستلام ميزانية الأقليم وتقاسمها بين القيادتين.
إن تعيين الوزراء سواء في حكومة إقليم كردستان أو تعيين الوزراء والمسؤولين لدى حكومة بغداد جري حسب صلات القربى العائلية والقبلية أولاً ،وفي المرتبة الثانية جاء دور تعيين الطائعين والمستسلمين لرغبات الزعامة الكردية، أي بعيداً عن عنصر الكفاءة والقابليات.وهؤلاء بدورهم يعملون على زرع رجالهم وذويهم المنصاعين والطائعين في كل المناصب الممكنة ليتغلغلوا في جميع الدوائر ويصبحوا أداة تعمل على ديمومة حكم السلطة المستبدة التي يدينون لها بمناصبهم. هذا يجري في القوات المسلحة العراقية والقوات الحزبية في كردستان (بيشمركه) وضمن جهازي الأمن للحزبين المتحالفين والمقتسمين للسلطة والواردات في كردستان، حسب إتفاق يسمى بـ "الإتفاقية الإستراتيجية" ليست هنالك دائرة واحدة، مهما كانت قلة أهميتها في كردستان، لم تشهد زرع الموالين والطائعين لقيادة الحزبين الحاكمين بكثافة.
واضح أن البرلمان في أربيل يخلو من المعارضة، ويمثل ذلك إحدى ظواهر الإستبداد، فالبرلمانيون يدينون بمناصبهم الى "سيد الحزب"، ولذا علاقة عضو البرلمان بالشعب الكردي وبالمجتمع علاقة غير سليمة، فعضو البرلمان في هذه الحالة ينظر الى أعلى، الى رئيس الحزب "ولي نعمته" ولا ينظر الى أسفل حيث الجماهيرالعريضة. البرلمان في خدمة الحزب وبكلمة أدق في خدمة رئيس الحزب وليس في خدمة المجتمع.
السؤال هو، في مجتمع كردستان الذي لم ينعم بالحياة الديمقراطية لا على يد المحتلين الأجانب ولا على يدى حكامه المحليين، ماهو أثر هذه الخطوات التي هي ملازمة لسلطة الإستبداد على عملية تداول السلطة ديمقراطياً في المستقبل ؟
الواقع أن سلطة الإستبداد تحتاط لهزيمتها في "الإنتخابات الديمقراطية" في خلق المشاكل وزرع الألغام للحكومة المقبلة، وقد خططت لها مسبقاً لكي يعتري عمل الحكومة الجديدة الشلل والجمود في تنفيذ الإجراءات الحكومية وتطبيق برنامجها الجديد. فسلطة الإستبداد التي خسرت الإنتخابات قادرة على ذلك بفضل ما هيأته مسبقاً من عراقيل على طريق الحكومة الجديدة.
لو فرضنا أن انتخابات ديمقراطية ونزيهة ستجري في العام المقبل 2009، ويفوز فيها تيار سياسي معارض بحصوله على أغلبية الأصوات، هذه المعارضة الغير ممثلة في البرلمان الحزبي وجاءت من خارج رحم الحزبين الحاكمين ، ماذا سيحصل عند فوزها الساحق ؟ إن الفوز يمنحها حق تشكيل حكومة جديدة حسب ما ينص عليه الدستور.
هنا لابد من القول، وهذا من طبيعة الحاكم المستبد والذي أمضى عقوداً يتلذذ بالسلطة والمال بعيداً عن كل مسؤولية أو محاسبة، أن يتآمر على الحكومة الجديدة بفضل مرتزقته المنتشرون في جميع أجهزة الحكومة في كردستان وفي بغداد.
سيجد الفريق الجديد الذي أتت به الانتخابات الديمقراطية الى الحكم، عقبات خلفتها له قوى الإستبداد المنهزمة في الإنتخابات العامة، ومن أهم هذه الألغام المزروعة على طريق الفريق الجديد:
عرقلة أو تجميد كل الأوامر الصادرة من الحكومة الجديدة الى قوى الأمن بدوائرها المختلفة والمنتشرة في القرى والقصبات والمدن الكبيرة. فجهاز الأمن الكردي هو من صنع السلطة الحزبية وهدفه حماية "المؤسسين" ولم يرتقي في وعيه وتربيته وولائه الى خدمة الوطن والشعب، بل مشحون بالكراهية ضد المعارضة الديمقراطية ويعادي كل ما هو خارجه.. فكلا الجهازين الأمنيين: باراستن وآسايش سيأتمران سّراً بأوامرقيادة حزبيهما وسيعملان على زعزعة مواقع الحكومة الجديدة بما لديهما من معلومات وأموال ووسائل قسرية وخبرة في التخريب. نظرة قصيرة الى تركيبة أجهزة الأمن الكردية وماهية مسؤوليها تكشف بما لالبس فيه إنها تشكلت لخدمة الحاكم وبطانته ورعاية مصالحه.
جهاز الشرطة بمختلف مهامه وأصنافه الذي شكله "الإستبداد" سيتلقى الأوامر بعدم تنفيذ توجيهات الحكومة الجديدة، لابل قد يقوم بالتنسيق مع جهاز الأمن بعمليات تخريب في المدن والمطارات والأماكن العامة لإتهام الحكومة الجديدة بالتقصير وقلة الكفاءة ولتشويه سمعتها في الأوساط الشعبية والخارجية.
الفصائل المسلحة (بيشمركه) برؤساء الأفواج الذين تم تعينهم من قبل رئيس الحزب نتيجة ولائهم الشخصي له ، يظل هؤلاء على ولائهم للحاكم المستبد، ولي نعمتهم، وبإمكان هؤلاء القيام بإنقلاب عسكري ضد الفريق الجديد، أوالقيام بمحاولات إغتيال بالتنسيق مع الأمن الحزبي للقضاء على رموز الفريق الجديد في الحكم.
الجهازالإداري الحكومي، سيعمل على إجهاض نصر المعارضة عن طريق سحب الإمكانات المالية. وهذا ممكن نظراً لهيمنة الحزبين على ميزانية الإقليم طوال مايقارب العقدين من الزمن، فسيجد الفريق الجديد المنتخب حديثاً خزينة خاوية الى حد كبير، بحيث تجد الحكومة الجديدة صعوبة جدّية في دفع رواتب الموظفين وتمويل المؤسسات الإجتماعية كالمستشفيات والجامعات والمدارس وتوفير المياه والكهرباء والخدمات الإجتماعية الضرورية لقاطني الاقليم، فتحصل فوضي كبيرة ويستاء الشعب من سوء أداء الحكومة الجديدة والتي ستضطر في النهاية الى الإستقالة لعودة سلطة الإستبداد الى الحكم.
وبعض الوزراء الكرد في بغداد سيعملون على تأليب حكومات بغداد، وأنقره وطهران ودمشق ضد الفريق الجديد ويصفونها بشتى النعوت لإعطاء صورة غير واقعية عن البديل الجديد، لكي تقوم بمحاربتها ومحاصرتها. وبمعنى آخرسيواجه الفريق المنتخب ديمقراطياً في اقليم كردستان، من قبل غالبية الشعب، إدارة معادية له ومتآمرة عليه لإفشال جميع مشاريعه الهادفة الى التحول الديمقراطي في كافة مناحي الحياة. وظاهرة الإستعانة بجيوش هذه العواصم في مراحل مختلفة هي حقيقة وقعت مراراً ويشكل جزءً متميزاً من تاريخ قيادة الحزبين الحاكمين.
إن هذا يفسر الى حد بعيد المصاعب التي تواجهها شعوب البلدان الشيوعية في مرحلة مابعد الإستبداد، فدمقرطة مجتمعاتها وصيانة النظام السياسي من نزعة الإستبداد والتخلص من إرثه القمعي والإحتكاري والتحول نحوالثقافة الديمقراطية وتداول السلطة سلمياً وفق إنتخابات حرة ونزيهة ووضع جهاز الدولة في خدمة كافة شرائح المجتمع دون تميز. أي بناء دولة متحضرة ينعم فيها الجميع بحقوق متساوية ومراعاة للعدل في توزيع الثروة الوطنية. هذه المجتمعات تصطدم بـ "منتفعي مرحلة الإستبداد" السابقة الذين يأبون التخلى عن إمتيازاتهم الشخصية واللاشرعية .
وعندما نعيد النظر في تاريخنا الماضي القريب نحن الأكراد، نجد في القيادة الحالية نزعة إحتكارية خطيرة للسلطة والمال، من هنا خطر إلغاء العملية الديمقراطية برمتها حال الشعور بخطر إقتراب هزيمتها في عملية الإنتخابات القادمة. كما أن ضرب الأتحاد الإسلامي فقط بأيام قبل حلول موعد التصويت، يكشف مدى الحساسية المفرطة للسلطة الحالية تجاه كلمة "الإنتخابات". فقد أوعزت السلطة الى مرتزقتها بإرتكاب أعمال حرق ونهب لمقرات الإتحاد الإسلامي في عدد من مدن كردستان وقتل عدد من أعضائه، وهذا مؤشر واضح على رسوخ نزعة الإستبداد في عقلية السلطة الكردية الحاكمة وعدم ترددها في خرق كل القيم والأعراف لديمومة تسلطها. وهذا يفسر أيضاً ألهدف الحقيقي من وراء "الإتفاق الستراتيجي" بين الحاكمين.
إن قوى التغير الديمقراطي السلمي التي تناضل من أجل الخروج من "قفص الإستبداد" مدعوة الى وضع ماورد أعلاه في الحسبان، بحيث لاترتبك ولا تفاجىء بردود فعل الإستبداد. وينبغي إيجاد الحلول لهذه التوقعات وإفشالها - هذا ممكن خلال آلية ليس هنا مكان إيراد تفاصيله - بما يضمن تعزيز العملية الديمقراطية. إن هذا يتطلب حشد كافة الطاقات الموجودة في المجتمع وبالتنسيق مع قوى ديمقراطية خارج الإقليم لتثبيت المسار الديمقراطي في إدارة الحكم وإعادة الكرامة والحقوق لكل فرد من أفراد المجتمع.