أغسطس 27، 2009
من ذاكرة المام جلال
زكي آميدي
نشرت جريدة الشرق الاوسط سلسة حلقات بعنوان من ذاكرة المام تضمنت احاديث مطولة عن ذكريات الرئيس العراقي جلال الطالباني وتاريخه السياسي. ومما لا شك فيه ان للسيد الطالباني تاريخ طويل من النضال والكفاح، ولطول تلك المسيرة النضالية فمن البديهي ان تتخللها اخطاء وهفوات, ولا بد لها ان تقف في محطات غير مرغوبة وتقيم تحالفات غير مستحبة تفرضها الطبيعة البشرية الناقصة اضافةً الى الجغرافية السياسية الشاذة لكردستان العراق والتي تفرض تغييرالتحالفات السياسية بشكل مستمر.
يتطرق السيد جلال الطالباني في الحلقة الثانية الى مفاوضات الاتحاد الوطني الكردستاني مع صدام حسين في عام 1983حيث يقول: اننا اوقفنا القتال من جانب واحد لأننا اردنا" للجيش العراقي أن يطمئن بأننا لن نضربه من الخلف أو نشغله وهو يؤدي واجبه بالدفاع عن الوطن" حسب تعبير الطالباني. وقدر صدام حسين هذه الالتفاتة فقرر فتح باب الحوارمع الاتحاد وتم الاتفاق على كل شئ ولكن الاتراك أفشلوا الاتفاقية حيث يقول " كنا نعرف أن وفدا تركيا عسكريا يزور بغداد ذلك اليوم، فقلت له: أبو أحمد( يقصد عزة الدوري) يبدو أن الأتراك خربوا الاتفاق؟، ذلك أننا نعرف أن تركيا غير راغبة بأن توقع الحكومة العراقية معنا أي اتفاق كي لا نحصل على حقوقنا وبالتالي سوف يضغط عليهم أكراد تركيا ويطالبون بحقوقهم أسوة بنا، وقد هدد الوفد التركي الحكومة العراقية بأنها إذا وقعت الاتفاق مع الاتحاد الوطني الكردستاني فإنها سوف توقف حركة الاستيراد والتصدير، وكانت تركيا متنفسا لدخول أنواع البضائع ولتصدير النفط في وقت كان الحصار يغلق كل الأبواب بوجه العراقيين، فأجابني الدوري بقوله: اللعنة على الأتراك وعلى من جاء بهم إلى هنا». وقال الطالباني إن الدوري التفت اليه وقال: أرجو أن لا تنتهي المفاوضات بيننا، فقلت: لا لن تنتهي! ثم طلب منا أن لا نبدأ القتال، وقال: أرجو أن لا تعاودوا القتال، فقلت له: نحن لن نعاود القتال طالما الجيش العراقي يقاتل ومنشغل في الحرب، بعد ذلك يعود الأمر لكم فيما ذا ستمنحوننا حقوقنا أو نتقاتل، فقال: شكرا لهذا الموقف الوطني"
اذن لم تكن الخطأ من القيادة العراقية كما ُيستخلص من كلام السيد الطالباني بل كانت من القيادات الكردية التي لم تكن لها حس وطني، فضربت الجيش العراقي "وهي تؤدي واجبا وطنياً" بالدفاع عن العراق ضد الغزو الايراني فان السيد الطالباني توقف عن القتال من طرف واحد بعكس الاطراف الكردية الاخرى ، فرد صدام بالمثل ووعد بمنح الاكراد حقوقهم "قال لي سأعطيكم ما يرفع رأسكم أمام أكراد تركيا وإيران" وكان على استعداد لتوقيع اتفاقية مع الاتحاد بهذا الشأن لولا التدخل التركي في اخر اللحظة، والذي استشعره السيد جلال الطالباني وتاكد حدسه كما يقول، وتراجع الحكومة العراقية لان ثمن حل المشكلة الكردية كان مدمراً وهو اغلاق الحدود التركية في وقت "كان الحصار يغلق كل الابواب" بوجه العراق.
اولاً لا افهم قصد الطالباني بكل الأبواب فالمعروف ان السعودية والكويت والاردن دعموا العراق بكل الامكانيات وكانت حدودهم مفتوحة لكل انواع المساعدات فاين الحصار واللأبواب المغلقة؟ واذا كان التهديد التركي واقع وليس تبرير وفرضيات الطالباني عن حصار العراق صحيحة فان عدم توقيع الاتفاقية يعد عملا وطنيا ساهم في انقاذ العراق من الحصار وباتالي صموده امام الغزو الايراني فلماذا ينتقد صدام لاحقاً على عدم توقيع الاتفاقية ويتهمه بانه كان يفضل اقامة العلاقات الطيبة مع الجيران على حساب المشاكل العر اقية " كان يفكر بكسب الجيران مقابل عدم إعطاء الأكراد حقوقهم المشروعة".
من يقرأ هذه المذكرات يظن ان السيد الطالباني يتحدث عن فلم سينمائي وليس عن احداث حقيقية مرت بها كردستان وما زالت محفورة في ذاكرة الاكراد . صدام حسين لم يكن في يوم من الايام جادا في حل المشكلة الكردية لا بسبب تركيا ولا غيرها وانما بسبب عقليته العنصرية وايمانه بامكانية صهرالقوميات في بوتقة الامة العربية، فأباد مئات الاف من الموطنين الاكراد المسالمين ضمن عمليات تصفية عرقية قل نظيرها في التاريخ. لقد ذاق صدام الأمريين لجيرانه ايضاً ولم يكن له علاقات طيبة مع معظمهم باستثناء فترة الحرب مع ايران حيث تحسنت علاقته مع الاردن وجميع دول الخليج التي دعمت العراق بكل امكانياتها اثناء حربه مع ايران فكان رد الجميل هو استباحة الكويت و غزوها وتهديد بقية دول الخليج بعد انتهاء الحرب بسنتين.
الطالباني بأتفاقه فيما لو تم لم يكن ليضيف شيئا جديدا الى اتفاقية اذار 1970 التي شكلت اعلانها في وقته صدمة حقيقية لدول جيران العراق ومنها تركيا، فلأول مرة تم الاعتراف بالاكراد كقومية لهم الحق في ادارة شؤن بلادهم في اطار الحكم الذاتي كما ان اتفاقية الطالباني لم تضمن انضمام كركوك والمدن الكردستانية الاخرى الى اقليم كردستان وبالتالي كان الطرف التركي سيبدو سعيدا جدا فيما لو تم الاتفاقية. ومن الجدير بالذكران كركوك كانت المشكلة الوحيدة لانهيار مفاوضات البارزاني مع صدام حسين في اذار 1974.
الحقيقة ان تركيا لم تعرض مصالحها التجارية للمتغيرات السياسية بعكس الدول العربية، وهي لم تغلق حدودها مع سوريا على الرغم من دعم الاخيرة لحزب العمال الكردستاني وكذالك بقيت العلاقات التجارية مزدهرة مع العراق رغم احتضان صدام لحزب العمال الكردستاني. وقصة التدخل التركي تبرير للحفاظ على ماء وجه المتفاوضين وليس لتدوينها في المذكرات.
وعلى الرغم من عدم جدية صدام حسين في حل امشكلة الكردية الا انه كان يريد ان تكون هناك هدنة مع الاتحاد لاطول فترة ممكنة. حصل الطالباني على السلاح والمال من صدام حسين اثناء الهدنة ولكنه عاد الى القتال بعد فترة قصيرة، وتعاون بشكل لم يسبق له مثيل مع الحرس الثوري الايراني الذي بدوره استغل المساعدات اللوجستية من الاتحاد لشن عمليات عسكرية علي العراق داخل العمق الكردستاني ومنها ضرب المنشئات النفطية في مدينة كركوك ، مما اغضب صدام كثيرا فكان يهاجم السيد جلال الطالباني باستمرار في أحاديثه ولم يعفو عنه بل استثنى شخصه فقط من بيان للعفو عن الاكراد العراقيين اصدره في اواخر الثمانينات ووصفه بالخائن.
بعد الانتفاضة الكردية والحماية الدولية للاكراد اضطر صدام الى الجلوس ثانية مع السيد جلال الطالباني كرئيس للوفد الكردي في المفاوضات، وكان ذالك امرا طبيعيا بالنسبة الى صدام حسين الذي كان يفهم المتغيرات السياسية ولكن لم يبدو الامركذالك لأبنه عدي الذي شعر بالاحراج، فكتب مقالة في احدى الجرائد العراقية يقول فيها انه سأل عن أسباب التغيير في تعامل والده مع الطالباني من امه، فحكت لعدي رواية عن ثورة اجداد صدام على الحكم العثماني ولجؤهم الى عشيرة الطالباني بعد فشل ثورتهم وكيف ان والده يتذكر تلك الايام و يتسامح مع الطالباني بناءاً على ذالك رغم خيانته وعلى قاعدة "وحدة بوحدة" والكلام لعدي صدام حسين.
لم يصدق احد عدي صدام لان مقالاته كانت تستخف بعقول المواطنين اللذين بدورهم كانوا يتداولونها للتسلية والسخرية، فسبق لعدي ان نشرر مقالة اخرى قبل ذالك بشهورعن ابيه مدعياً انه يملك بدلتين فقط، يلبس احدهما ويغسل الاخر، وعن اخيه قصي وكيف ان بيته لم يكمل بنائها بسبب ظروفه المالية الصعبة، ولكن يبدو ان السيد الطالباني اعجب بهذه الرواية من دون ان يتأكد من مصدرها فراح يرددها في اكثر من مناسبة ولأكثر من فضائية وقد اشار اليها في هذه المذكرات ايضاً وفي اكثر من حلقة. يقول السيد الطالباني ان «صدام حسين كان يعرف أني أنحدر من كركوك، وذكرته بخطابه الذي كان قد ألقاه في أربيل، الذي عفا خلاله عني بسبب استقبال عائلتنا الطالبانية لأجداده عندما هربوا من تكريت إلى كردستان " والحقيقة ان تلك القصة لم يذكرها صدام حسين مطلقاً بل انه لم يخطب في اربيل اصلاً بعد دخوله الكويت، وانما ادلى بحديث قصير في زيارة خاطفة الى مقر حزبه في اربيل مباشرة بعد اعادة سيطرة الجيش العراقي على المدينة وطرد المنتفضين والذين كان يصفهم بالغوغائيين ولم يتطرق الى موضوع الطالباني وكانت تلك هي الزيارة الاخيرة له ولحين اعدامه، اما قبل دخوله الكويت فكان يهاجم الطالباني اكثر من غيره وكان واثقا من انه لن يرى كردستان ثانية الا بقدرة القادر ولم يتخيل انه سيضطر الى التفاوض معه ثانية على الاطلاق.