أغسطس 11، 2009
إني أعتذر
راشد فايد (النهار)
أعتذر من كل من حاولت إقناعه بأن المواطنية أهم صلة قربى في هذا المجتمع، وبأن الدولة اللبنانية هي الهويّة الجامعة التي يجب أن تظلّلنا بلا تمييز.
وأعتذر من كل من سوّلت له نفسه يوماً أن يصدّق ذلك، أو يبدأ محاولة الاقتناع به، خصوصاً إذا كان يستند في الأمر الى أن من كان يخطب في 14 شباط من كل عام، لا سيما في "14 آذار" عام 2005، تحلّل من الطائفية وتحرّر من ضيق الأفق. فوقائع اليوم تقول انه كان مضطراً الى ذلك، وإننا كنا سذّجاً أو كثيري التفاؤل، يأخذنا الظاهر ويعمينا عن الباطن. نرى ما يفعل ونعمى عن اضطراره إليه.أعتذر من كل من ماشاني في التغاضي عن الإشارات الطائفية في بعض الخطب، فلقد أعماني حلم الدولة السيّدة المستقلّة عن تجذّر مرض الأنا المتدرجة من الذات الشخصية الى الذات الجمعية، وغلب تطلّعي الى وطنٍ الناس فيه مواطنون، على واقع أنهم رعايا طوائف في كونفيدرالية مصالح، تتبدّل تحالفات قادتها كما يبدّلون أحذيتهم.
أعتذر لأنّي آمنت بحصانة اللحظة التاريخية في "14 آذار" وقدرتها على صهر الإرادات التي تفجّرت بلا تحضير ولا موعد في ساحة الحريّة، وحملت مئات الآلاف، من كل المناطق على إطلاق صرخةٍ واحدة واعدة.
أعتذر لأني قدّرت أن بعض النبرات النابية بالطائفية كانت أقرب الى الاحتضار منها الى عودة الروح.
أعتذر لأنّي لم أتنبّه الى قول الأجداد أن التفاحة الفاسدة تُعدي، أما التفاحة الصحيحة فتنعزل.
وأعتذر لأني صدّقت النظريات القائلة بأن العملة الجيّدة تطرد العملة السيئة. فلم أجتلِ مردود التقوقع الذي يفرضه حزب على أبناء مذهب، فيعزلهم في الجغرافيا والعقيدة ويغذّيهم كل يومٍ بفكرة الانعزال عن الآخر بادعاء القوة الذاتية واستنباط المفاهيم التي تجعل الدين عملاً يومياً، ويمنح براءات الذمّة في الوطنية والعروبة والاسلام ويعطيها وفق مصالحه واستراتيجية حلفائه.
أعتذر لأني لم أعلّق أهمية على استخدام بعض أفرقاء "14 آذار" تعابير تنضح بالطائفية، واعتبرتها أمراً عارضاً، كنت أجد له ما يبرّره. كنت أسكت على استخدام أمين الجميّل (الرئيس) وسمير جعجع (الحكيم) عبارة "المجتمع المسيحي" الى جانب الديموقراطية والدولة والوطن. وكنت أتقبّل تبريرها بأن عون (الجنرال) يستخدمها لشد عصب ناسه، ولا يجوز تركها له. وكنت أسمع جنبلاط (وليد) يمتدح حميّة "الموحدين الدروز" فأصدّق أنه يريد شدّ لُحمتهم مع "14 آذار". ولا أنتبه الى أنه يحرّضهم على الانعزال، ويريدهم جالية من الجاليات الطائفية التي تريد وطناً أشبه ببيت بمنازل كثيرة، ودولة أقرب إلى مزرعة، وليس مواطنين في شعب يسعى إلى وطن يوحد ودولة تلخص إرادات مواطنين.
أعتذر لأني اعتقدت أن الفرصة مؤاتية لولادة هويّة وطنية جامعة، وأن دماء شهداء ثورة الأرز غسلتنا من الأنانيات والتقوقع، والانتسابات الفئوية والمناطقية، والمذهبية والطائفية.
أعتذر، لأني صدّقت، ودعوتكم لتصدّقوا، أن زمن التكاذب السياسيّ ولّى، وأن العيش الواحد بين اللبنانيين حلّ محل التعايش والعيش المشترك.
أعتذر لأني راهنت على أن الديموقراطية ستسفّه القوة المسلّحة، وأن الحوار سيفتّت الصف المرصوص بالأسطورة الدينية والوعد الإلهي ومفاتيح الجنّة.
اعتذر لأني تناسيت أن مرض الطائفية معدٍ، وأن البحث عن سترة هو صفة العاري، ومن يفعل ذلك يدفع بعضاً آخرين إلى التسابق معه لنيل ستراتهم.
مع ذلك، اعتذر عما كتبت هنا، فلربما نستيقظ صباحاً فنسمع كلاماً مناقضاً لما سمعناه بالأمس، وبحكم الضرورة.
كذلك اعتذر عما كتبت هنا، لأني اشحت بانتباهي عن كون مئات الآلاف هبوا لنداء الحرية من دون أن ينتظروا من وقفوا يكرزون بهم في ساحة الشهداء من دون استئذانهم.
كما اعتذر لأني اكتشفت متأخراً أن بين قياداتنا، من أهل 8 وأهل 14، من هم راكبو خيل، وليسوا سائسين، أي ممن يحسنون اعتلاء صهوة الجماهير، لا قيادتها.
لا أتهم لأن التهمة شبهة تحتمل التأويل، وطائفية كثير من القيادات حقيقة وواقع وممارسة.
أعتذر ولا أتهم سوى نفسي بالتورط في التفاؤل بأن زمناً جديداً قد ولد.
واعتذر باسمي وباسمكم لأننا أزعجنا ونزعج كثيرين برفضنا أن نكون رعايا جاليات. ولربما يحسن بنا أن نتقن هذا الازعاج علهم يؤمنون بأن لبنان الوطن والدولة لابد أن يولد يوما.