مايو 16، 2009

ولكن لماذا زار أدونيس كردستان حقاً؟



نزار آغري



حط الشاعر السوري أدونيس الرحال في إقليم كردستان العراق بدعوة من مركز كلاويز الثقافي في مدينة السليمانية. والمركز ملتقى ثقافي صغير يديره حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، صاحب النفوذ شبه المطلق في المدينة، والذي يتزعمه الرئيس العراقي جلال طالباني.
علقت على الجدران في السليمانية صور أدونيس التي راح الناس يتساءلون عمن يمكن أن يكون حتى أن بعضهم خمنه مرشحاً جديداً للانتخابات التي من المقرر أن تجري في كردستان في غضون أسابيع.
أحيا الشاعر الضيف أمسيات أدبية لجمهور يجهل أغلبه اللغة العربية، وزار حلبجة، المدينة التي تعرضت للقصف بالسلاح الكيمياوي من قبل الجيش العراقي عام 1988، وقال عن الرئيس جلال طالباني الذي التقاه في منتجع دوكان "إنه أول رئيس جمهورية يلتقيه ويفتخر بلقائه."
وكان طالباني استقبل أدونيس بحفاوة، واستعرض له الإنجازات التي تحققت بعد سقوط صدام، ووفق بيان لرئاسة الجمهورية العراقية، فإن أدونيس عبر عن سروره واعتزازه بلقاء طالباني.
لم يتطرق أدونيس في الأحاديث التي أدلى بها ، ولا في المقالات التي كتبها، إلى السبب الذي جعله يزور إقليم كردستان، ولا يزور غيرها من المدن العراقية خارج الإقليم الكردي، بما في ذلك العاصمة بغداد.
وقد هاجم أدونيس الحضارة العربية ووصفها بأنها تدخل طور الانقراض، وتمنى أن لا تصيب عدوى العرب الوسط الثقافي الكردي.
ولكن ماذا فعل أدونيس في كردستان؟ هل ذهب يبحث عن الشعر والحداثة؟ ألم تكن هناك أماكن أكثر اكتراثاً بهذه الأشياء من الإقليم الذي لاوقت له للشعر والأدب هو الغارق في سجالات النفط وكركوك والبيشمركة؟ هل ذهب ليؤكد دعمه للأكراد بوصفهم ضحايا استبداد طويل من نظام فتك بهم باسم العروبة ؟ فلماذا توريط الشعر والأدب إذا؟ ثم أن الأكراد باتوا الآن أحراراً وكفوا عن كونهم ضحية مسلوبة الإرادة. هم كانوا كذلك لوقت طويل لزم خلاله أدونيس، أسوة بسواه من الكثيرين من الشعراء والكتاب العرب، الصمت. لم ينبس أدونيس ببنت شفة حين كان الأكراد بحاجة إلى جملة واحدة تفصح عن التضامن أو مجرد الشفقة. حين كان الأكراد يموتون خنقاً وشنقاً وأنفالاً أدار أدونيس ظهره. آنذاك لم يستطع أن يرى أو يسمع. آثر أن يرتكب "خيانة" الصمت. حين كان الأكراد بحاجة إليه حقاً لم يمنحهم دقيقة من وقته. الآن حين تحول الأكراد من "الثورة" إلى "الثروة" ونزلوا من الجبال إلى القصور التي امتلأت بالمال وصاروا مثل سلطان بروناي لايعرفون ما ذا يفعلون بهذا "النعيم" أصبح التعاطف معهم أمراً مرغوباً وممكناً. اكتشف مخرج سينمائي مصري أنه من أصول كردية وتعهد أن يصنع فيلماً عن مصطفى البارزاني. وتراءى لصحافي عراقي، يعمل في جريدة خليجية، هو البعثي السابق، أن الأكراد خير شعب وأن جلال الطالباني أعظم رئيس. بدوره اكتشف أدونيس أن كردستان دون غيرها هي موطن الشعر والبيان..... العربيين.
لم يحتل الأكراد يومأً حيزاً ضئيلاً من دفاتر أدونيس. لم ينشغل بهم لحظة من اللحظات. لم يهتم بهم كبشر وتاريخ ووطن وثقافة وأدب وشعر. لم يكترث للمأسي التي حلت بهم. لقد كتب عن أنطون سعادة وآية الله الخميني والثورات العالمية ولم يذكر الأكراد بكلمة.
حين يحذر أدونيس من الإصابة بعدوى العرب فالأرجح أنه يستخف بعقول مستمعيه. ماهي الحضارة الكردية التي يخاف أدونيس ان يصيبها ما أصاب الحضارة العربية؟ هل يملك أدونيس معطيات عن ثقافة الأكراد وإسهاماتهم الفكرية والحضارية ؟
المثقفون الأكراد أنفسهم، ممن كانوا يستمعون لأدونيس، كانوا يعرفون أن تحذيرهم من العدوى مجرد شطحة بلاغية خالية من أي مضمون. إنهم يعرفون أن الأمر يتعلق بمجاملة طنانة. غير أن المجاملة حين تنتفخ تصبح قريبة إلى الذم.
كان يهم المثقفين الأكراد الذين تحلقوا حول أدونيس أن يسمعوا ما يشبع رغبتهم في التخلص من عقدة النقص الكبيرة التي تستوطن دواخلهم. لقد أخذهم أدونيس "على قد حالهم" وأطرب سماعهم بكلمات تهدهدهم مثلما ما يهدهد المرء الأطفال بترنيمات ساحرة. رأى أدونيس المثقفين الكرد غارقين في سبات عميق، كما لو أنهم في كوكب آخر، فلم يرد أن يوقظهم. لم يقل لهم ما يمكن أن يجرح شعورهم النرجسي بأنهم في خير حال. لم يرد أن يديرهم إلى حيث يمكن لهم أن يروا الذات في مرآة الحقيقة. حقيقة أنهم أكثر تخلفاً وعجزاً وسقماً من العرب. أن العدوى التي يحذرهم منها تقوم بينهم منذ زمن طويل. أنهم موتى حقيقيون في ميزان الحضارة والثقافة والإبداع.
لم يتصرف أدونيس مع الأكراد تصرف الصديق الذي يهمه أمر الصديق بل سلك مسلك عابر السبيل. الصديق من يواجه صديقه بالحقيقة التي قد تجرح. عابر السبيل يداهن ويلاطف. يأخذ ما يريد ويمضي. لايكترث لواقع الحال.لم يكترث أدونيس للواقع الكردي المتردي.
فجأة أصبح المثقفون الكرد "أدونيسيين" وكاد واحدهم يهتف: بالروح بالدم نفديك ياأدونيس. انبروا يكتبون عن عظمة أدونيس وعن أراءه في الفكر والدين والثقافة هم الذين لم يقرأوا كتاباً أو ديوان شعر لأدونيس. نمت ذائقتهم الشعرية على حين غرة. بات أدونيس رمزاً لحوار الثقافات وأملاً للشعوب المقهورة كي تحظى بحقها في تقرير المصير. وانصبت اللعنات على المثقفين العرب الذين لايشاطرون أدونيس فناعاته أو أولئك الذين انتقدوا تصريحاته حول انقراض الحضارة العربية. كتب أحدهم مايلي: " الضجة او بالأحرى فقاعات الصابون التي أثارها بعض المثقفين العرب بوجه ادونيس بسبب زيارته لكردستان العراق تكشف مرة اخرى عن الوجه القبيح لثقافة ظلامية مسكونة بالماضي وخائفة من الحاضر ورافضة لمياه المستقبل النقية التي تجري تحت اقدامنا دون ان يدركها هؤلاء المثقفون" .
قال أدونيس: "لو اجتمع الأميركي والأوروبي والعربي على سبيل المثال على طاولة واحدة، ترى ماذا يمكن أن يقدمه العربي؟ لا شيء". أرضى هذا الأمر مستمعيه من الأكراد. لقد انتابهم شعور بالعظمة أتاهم على طبق من ذهب. ولكن ماذا لو انضم الكردي إلى تلك الطاولة: ماذا يمكنه أن يقدمه؟
وصف أدونيس الثقافة العربية بأنها " مؤسساتية وليس حرة ومستقلة" وأنها "تخدم السلطة". هذا صحيح في جانب كبير منه. ولكن هل يعرف أدونيس شيئاًُ عن حال الثقافة الكردية؟ هل يعرف أدونيس أن كردستان غارقة تحت ثقل هيمنة الذهنية العشائرية والسلوك الأبوي واحتقار المرأة وقتلها بداعي الشرف. هل يعرف أن الأحوال في كردستان تبعث على الغثيان حيث يخضع الناس لسطوة العائلات التي تحكم باسم النضال القومي منذ عقود طويلة. هل يعرف أن هناك سيادة شبه مطلقة لسلطة الفساد والمحاباة والمافيات العائلية والحزبية؟ هل يعرف أن السلطة السياسية الكردية الحاكمة تحاول، مثل السلطات العربية بالضبط، أن تقوم باحتكار الفهم الجمعي وتنمط الذوق العام وترسخ طقوس عبادة الزعيم الأوحد الذي يعلو على كل نقد أو مساءلة؟ هل يعرف أن هذه السلطة، مثل السلطات العربية الحاكمة، تعمل من أجل تدجين المثقف وإخضاعه لشروطها بالإكراه أو الإغراء في عملية تحويل منظمة كي يكون هذا المثقف عبداً مسلوب الإرادة يرضى بالسائد ويصفق له؟
حين كان أدونيس يطنب في مديح الحرية العامرة في ربوع كردستان وإلى جانبه الشاعر شيركو بيكس كان يجري اعتقال شيركو آخر هو رئيس تحرير صحيفة (ريلاوه). أما ذنبه فأنه كتب مقالاً ينتقد فيه السلطة الكردية. قال شيركو "تم اعتقالي من قبل الشرطة. لم يكن بحوزتهم اي كتاب من الحاكم، وقالوا لي إصعد معنا، مع العلم انه مذكور في القانون الصحفي أنه لا يجوز احتجاز أي صحفي".
ألقى أدونيس كلماته، في الشعر والأدب والثقافة، في مكان نزل فيه الناس تواً من الجبال. والشعر المبدع في رأيهم هو ذاك الذي يتحدث عن البندقية والقتال والوطن. والشعر الكردي الحديث، بما في ذلك ما يكتبه شيركو بيكس، هو شعر حديث في شكله غير انه قديم في منظوره ورؤيته وموقفه. إنه شعر ما برح يردد المقولات المتوارثة إياها منذ شاعرهم الأول أحمد خاني في القرن السادس عشر.
لم يسأل أدونيس نفسه عن السبب الذي جعل الزعيم الكردي يدعوه إلى كردستان. أحباُ بشعره وأفكاره عن الحداثة والتنوير والحرية. قبيل مجيء أدونيس إلى كردستان كان الزعيم الكردي رد على منتقديه بالقول: القمر المنير لايأبه لنباح الكلاب.
هل ذهب أدونيس إلى كردستان لرؤية القمر المنير؟