أبريل 12، 2009
الأزمة بين الكرد والمالكي قادمة
د.سليم الحسني
أبدى الكرد في العراق قدرا من الدبلوماسية في بدايات العهد الجمهوري عام 1958. فقد طرح الملا مصطفى البرزاني مشروع الحكم الذاتي بدل الدولة الكردية. لكن فرصة المفاوضات بهذا الخصوص لم تكن متاحة، لكثرة الحركات الانقلابية في تلك الفترة، مما دفع البرزاني الى إعلان العمل المسلح منذ أوائل الستينات من القرن الماضي، فبدأت حرب طويلة تركت أثرها في الشعب العراقي بأسره، وأصبحت الخدمة الإلزامية ترادف الموت بين عامة الناس. في عام 1968 جاء البعثيون الى السلطة، وقد خططوا لسيطرة طويلة الأمد، فلجأوا الى تهدئة الوضع المتفجر في الشمال، عبر الدخول في مفاوضات مع القيادة الكردية، أسفرت عن اتفاق 11 مارس 1970، وفيه تم الإعلان رسميا عن الحكم الذاتي. وقد أراد البعثيون تهدئة الجبهة الشمالية للتفرغ لبسط نفوذهم في الوسط والجنوب، والقضاء على خصومهم السياسيين. وعندما فرغوا منهم، توجهوا الى الكرد لتقويض أسس الاتفاق، وكان صدام حسين، يقود هذا الاتجاه الداعي الى حذف اسم القضية الكردية من القاموس السياسي العراقي.
فوجئ البعثيون بقوة الكرد، وعجزهم عن إخضاع قوات البشمركة رغم زج قوات عسكرية ضخمة في مناطق الشمال، فقد ساعد تدفق الدعم الإيراني، عبر الحدود الشرقية، الكرد على مواصلة القتال في مناطقهم الوعرة.
اتفاقية الجزائر
اضطر نظام الحكم الى توقيع اتفاقية الجزائر عام 1975، مع شاه إيران، الذي قدم فيه تنازلات حدودية مقابل وقف دعمه للبرزاني. وبذلك تمكنت السلطة المركزية في بغداد من توجيه ضربة قاصمة لقوات البشمركة. وقد واصل صدام حسين، بعد سيطرته على السلطة لشكل كامل عام 1979، عملياته العسكرية. فقد كان صدام يريد القضاء نهائيا على أي نزعة اسمها الحقوق الكردية.
طوال سنوات الحرب العراقية ــ الإيرانية (1980/1988) عادت الروح الى البشمركة، فقد وفرت ظروف الحرب الدعم العسكري الإيراني، ونشط الزعماء الكرد في تحركاتهم السياسية. وعندما تفجرت انتفاضة عام 1991 وأعقبها إعلان الولايات المتحدة المنطقة الشمالية من العراق منطقة آمنة، بدأ العصر الذهبي للكرد بقيادة الحزبين الرئيسيين الاتحاد الوطني الكردستاني برئاسة جلال الطالباني، والحزب الديموقراطي الكردستاني بزعامة مسعود البرزاني.
لقد أصبح الكرد أكثر قوى المعارضة العراقية أهمية، فلديهم أرضهم الآمنة المحمية، فيما تعيش الكيانات السياسية الأخرى في دول المهجر، مما جعل الكرد يرفعون شعارهم من الحكم الذاتي الى الفدرالية، وقد أقرت أحزاب المعارضة بهذا المطلب واعتبرته حقا مشروعا للشعب الكردي.
كركوك القضية الأولى
عند سقوط نظام صدام حسين عام 2003، كانت كردستان العراق قد أصبحت تمتلك مقومات الدولة، لكنها دولة غير معلنة رسميا، فيما كانت كل مناطق الوسط والجنوب تعيش حالة الفوضى والتردي الأمني والقتل الطائفي وانعدام الخدمات. وكان من الطبيعي أن يشعر الزعماء الكرد بتفوقهم على القوى العراقية الأخرى وهي تعمل لتأسيس كيان الدولة الجديدة، ففرض الكرد مطالبهم بإصرار على الفرقاء الآخرين، ولم يبق أمامهم إلا قضية كركوك التي حصلوا على وعود بمناقشتها بعد التصويت على الدستور وإجراء الانتخابات النيابية الأولى عام 2004.
منذ ذلك التاريخ تحولت قضية كركوك الى نقطة الخلاف بين حكومة إقليم كردستان وبين الحكومة المركزية، وهي في حقيقتها تعني الثروة الحالية والمستقبلية التي ستكتمل بها مستلزمات الدولة الكردية، وتبقى مسألة الإعلان خاضعة للعامل الدولي ومدى قبوله بفكرة التأسيس.
أدرك الزعماء الكرد أن رئيس الوزراء العراقي السابق إبراهيم الجعفري لن يتساهل في مدينة النفط الشمالية، فبدأت العلاقة تتوتر مع الأيام، وصلت حد تبادل الإدانات عبر وسائل الإعلام، وعندما ترشح للفوز برئاسة الحكومة، قادوا حملة سياسية أجبرت الجعفري على الانسحاب وتولي نوري المالكي رئاسة الحكومة.
.. وكركوك اللعنة
يبدو أن نار كركوك المشتعلة على الدوام ــ كما رآها الإسكندر الاكبر عام 331 قبل الميلاد ــ صارت تلتهم الاتفاقات والمواثيق والتحالفات السياسية، والأكثر من ذلك أنها ستلتهم مستقبل الحكومات المقبلة. فلو أراد أي رئيس وزراء إرضاء الكرد، فان النقمة العربية ستطيح به، ولو أغضبهم فان ثلث البرلمان سيعاديه علنا، ثم تبدأ التحالفات السرية للإطاحة به. وبهذا، فان هذه القضية تحولت في الحالتين الى خط النهاية. رئيس الوزراء نوري المالكي، الذي استطاع طوال سنوات حكمه الثلاث، أن يطفئ الكثير من الأزمات، وان ينجو من محاولات عديدة للإطاحة به، يواجه وضعا صعبا هذه المرة. لقد تمكن في السابق من إدارة الأزمات بالاعتماد على تحالفه مع الكرد، الذين منحوه من القوة ما ساعده على المضي بحكومة استقال نصف وزرائها. وعندما بدأت المساعي بين بعض الكتل السياسية لسحب الثقة منه، أطلق رئيس الجمهورية جلال الطالباني (زعيم ثاني اكبر حزب كردي في العراق) تصريحه الشهير «إننا لو اضطررنا الى تشكيل حكومة جديدة، فان المالكي هو الذي سيشكلها». وقد ساهم هذا الموقف في دعمه، ثم تعزز أكثر بتوقيع تحالف رباعي ضم الحزبين الكرديين (الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديموقراطي الكردستاني) الى جانب حزب الدعوة والمجلس الإسلامي الأعلى، وبذلك خرج المالكي من الأزمة وهو يستند الى ثقل برلماني يرهب خصومه.
عندما يخاف الكرد
لكن العلاقة لم تبق على حالها. فقد بدا المالكي متشددا أيضا في قضية كركوك، وأعلن أنه غير مستعد للتنازل عنها، بل انه بدأ يتكلم عن تعديل الدستور وصلاحيات الحكومة المركزية.
تحول المالكي بسرعة الى قوة مكتسحة، خصوصا بعد فوزه الكبير في انتخابات مجالس المحافظات، حيث صار قوة مهيمنة على الوسط والجنوب. مما أثار مخاوف الكرد والمجلس الإسلامي الأعلى، وبدأوا يرصدون حركة الرجل، فيجدونه يتقدم نحو انتخابات البرلمان بحظوظ كبيرة، وهو أمر يصعب التسامح فيه، لأنه يعني أربع سنوات طويلة مملة. لقد تحول رئيس الوزراء في نظر الكرد الى خطر يبعث على الفزع. وفي العادة تكون ردة الفعل الكردية قوية، عندما يساورهم الخوف، هكذا يقول تاريخهم.. وبداية المواجهة تبدأ بأزمة ذات عنوان صغير ثم تتفجر مدوية، هكذا تقول تجربتهم السابقة. لن يتنازل المالكي عن كركوك، ولن يتنازل الكرد عنها أيضا.. وإزاء واقع مغلق كهذا، لا بد من اعادة نظرة هادئة من قبل الطرفين. ولن يأتي هذا الهدوء ــ حسب معطيات الساحة العراقية ــ إلا عبر طرف دولي يدخل المعادلة ليؤجل المواجهة. وهذا أفضل الحلول لهذه المرحلة. وما عدا ذلك فإن الأزمة قادمة بين الكرد والمالكي لا محال، وبشكل عاصف هذه المرة.
(القبس)